الأسلوب القرآني في تنوع الجمل والتآلف بينها

الرئيسية المقالات مقالات دينية

الأسلوب القرآني في تنوع الجمل والتآلف بينها

الأسلوب القرآني في تنوع الجمل والتآلف بينها

اتسمت لغة القرآن الكريم بالتمازج الأسلوبي بين أنواع الجمل الثلاث الفعلية والاسمية وشبه الجملة، وكل منها يؤدي وظيفة تناسب تدفق المعاني وبسطها دون إحساس المتلقي القارئ أو المستمع بأي فجوة، أو جفوة، أو تعقيد لفظي، أو معنوي، أثناء التلاوة، وإذا أردنا أن نقدم أمثلة على ذلك من القرآن الكريم فإننا أمام واحة فيحاء مليئة بأطايب الثمر التي كلما ذقت حلاوتها نادى مُناد من داخلك هل من مزيد؟

فمثلا سورة (ق) المكية، وسورة (الطور) المكية اتسمتا بذلك التنوع في الجمل تنوعا شيقا وسلاسة في الترتيب والتنسيق ومخارج الأصوات، وموسيقى الجرس الصوتي مع الراحة النفسية التي يستشعرها المتلقي، فمثلا نجد في سورة [ق]، يقول تعالى: ﴿ ق وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ . بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾[ق:2]، فالمتأمل في سورة [ٌق] وآياتها كلها يُلاحظ أنَّ الجملة الاسمية قاطعة الدلالة في صدر السورة؛ لغلق الباب أمام المشككين من الكفار وغيرهم.

﴿ ق وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ ﴾ وعندئذ لا مشكلة عند كل مسلم موقن بذلك، لكن المشكلة تكمن عند كفار مكة الذين لم يُعجبهم ذلك، فقال الله تعالى:﴿ بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ ﴾، فهذه الجملة الافتراضية تفيد مدى العنت لدى الكفار الذين كان يتوقع أن يكون رد فعلهم هو المسايرة وليس المغايرة؛ حيث يفرحون بأنَّ فيهم نبيا يعرفونه، ويتخذونه بين الأمم فبدل أن تقولوا: هذا شيء جميل فريد، وإنه شيء عظيم فإذا هم يقولون: هذا شيء عجيب!

وعندما نقرأ هذه الآيات مع نفسك تراها جميلة الإيقاع سريعة الفهم فإنها فعلية، وكونها اشتملت على ألفاظ فعلية، تعكس جانب الحركة والتفاعل من جانب الكفار عند نزول القرآن العظيم ولم يقتصر رد فعلهم على ذلك، بل اعترضوا بجملة استفهامية أخرى في منتهى الغرابة والسطحية والتفلت منهم إذ قالوا: ﴿ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾ [ ق:3]، والسؤال في الآية الكريمة السابقة هو اعتراض لأجل الاعتراض دون منهجية في الموضوع المتصل بصدر السورة الكريمة، يقول تعالى:﴿ق وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ ﴾، وعودا إلى قوله تعالى على سبيل المحاجاة والاعتراض والتعنت﴿ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾؛ فلم ينكروا نُبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما أنكروا البعث بعد الموت، وهو في حدِّ زعمهم: ﴿ رَجْعٌ بَعِيدٌ ﴾، ولكنه عند الله شيء يسير، يقول تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾[الروم:27]، ومن المؤكد أنَّ الله تعالى سيصدع رءوسهم بردٍ عقلي وليس إيمانيا عقائديا فما دامت العقيدة مضطربة فإن الحوار ينبغي أن يكون على سبيل المحاجاة، فقال تعالى في الرد عليهم:﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ﴾ [ق:4]، فجاء الرد عميقا قويا مزلزلا أنهم سيموتون وستتحلل أجسادهم بفعل الأرض أمهم، وأنَّ الله تعالى يعلم ما تأكله الأرض من أجسادهم وكل هذا في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى، مصداقا لقوله تعالى:﴿ قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى ﴾ [طه:52]، فهل يستطيعون الرد على هذه الجملة القرآنية الدافعة لعقولهم الكاشفة لزيف اعتقادهم؟ فهل يعلمون أنَّ الأرض التي تأكل من أجسادهم لها ذاكرة وتخزين لما استقر فيها من ثراهم، فإذا كان الله تعالى جل جلاله قد أعلمهم أنَّ الأرض ستعيد ما أخذته مرة ثانية منهم عندما يقوم الناس لرب العالمين، فهل سيقتنعون بهذا ؟!

إلا أنهم للاسف لم يقتنعوا – كذلك – والدليل قوله تعالى:﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ ﴾ [ق:5]، وهذا هو الاستخدام الآخر للجملة الإضرابية ﴿ بَلْ كَذَّبُوا ﴾، وجعل الله تعالى الآخرة حقا، والإيمان بها واجبٌ أوجب، ومن لم يؤمن بها ويؤمن بتفاصيلها فهذا هو الكفر بعينه والتردد والاعتراض فهم في أمر مريج، وهكذا ردَّ القرآن الكريم على إنكارهم البعث بأكثر من أسلوب عقلي صادم لهم، وكانت اللغة برشاقتها وجمالها هي الأداة التي تقنع المؤمنين، وترد زيف المدَّعين.

والظاهر من سياق الآيات أن كلمة الحق هي الآخرة، ولكننا إذا أعدنا التأمل وجدنا أنَّ كلمة [الحق] يمكن أن يُراد بها القرآن الكريم الذي قال الله عنه:﴿ وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ﴾ [ الإسراء :105]، وكما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ الأنفال:32]؛ فكلمة [الحق] – هنا – قد يُراد بها القرآن الكريم أو النبي العظيم صلى الله عليه وسلم، وكل هذه المعاني قريبة المنال، ولها تأصيلها القرآني ولا تعارض بينها.

ثم كان الانتقال العجيب إلى الجملة الاستفهامية التي تفرز موجبات الإيمان التي لم يحققوها بالنظر في الآيات الكونية، قال تعالى:﴿ أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا  لَهَا مِن فُرُوجٍ﴾ [ق:6]، وهذا استمرار في الرد عليهم بأسلوب تقريعي شديد وقد ناسب ذلك استخدام لغة الاستفهام، والمعنى – هنا – ربطيٌ وتشويقيٌ وإعجازي وفيه نقلة فكرية وقلبية عجيبة وكأن المعنى إذا كنتم أنكرتم قدرة الله في إحياء الموتى، فهل تنكرون قدرته في خلق السموات دون أن تكون – هناك – سموات دون مثال سابق، فكيف – إذا – أنشأها الله تعالى وبناها؟!

فانظر إلى قوله تعالى:﴿ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا ﴾، ثم قوله: ﴿ وَزَيَّنَّاهَا﴾، ثم قوله:﴿ وَمَا  لَهَا مِن فُرُوجٍ ﴾، فهل يقدر على هذا غير الله عز وجل؟ وهل نظروا لكي يعتبروا؟ وهل اعتبروا لكي يؤمنوا؟!

وللأسف فهم لم يعقلوا ولم يسمعوا ولم يفهموا، قال تعالى:﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك:10]، فعقاقبهم الله عز وجل بتعطيلهم حواسهم عن النظر والاعتبار بظاهر قدرة الله عز وجل، وعندما عطلوا حواسهم إلى النظر في السماء فإنهم عطلوا حواسهم – كذلك – عن النظر والاعتبار في قدرته تعالى في خلق الأرض، يقول تعالى:﴿ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [ ق:7 ].

وقدرة الله تعالى واضحة ظاهرة، ورغم بداهة ظهورها ووضوحها فإنهم يجحدونها وينكرونها، فالسموات تملأ الكون بعظمتها وعلوها وسقفها المحفوظ، ولكنهم معرضون عنها، كما قال الله تعالى:﴿وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ [ يوسف:105 ].

ولو أنهم تأملوا قوله تعالى: ﴿ لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ  لاَ  يَعْلَمُونَ ﴾ [ غافر:57 ].

إن آيات عظمة الله في الأرض التي جحدوها فصلها القرآن تفصيلا لمن كان له قلبٌ أو ذرة من إيمان، قال تعالى مُفصلا نعمه وقدرته في خلق الأرض:﴿ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [ ق:7 ]، والملاحظ أن هذه الجمل الثلاثة تتكلم عن قضايا كونية لا ينهض بها إلا الخالق سبحانه وتعالى، وهذه الآية الكريمة تنسجم مع نظائرهافي الذكر الحكيم كمثل قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ﴾[الرعد:3]، وفي مثل قوله تعالى: ﴿ وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾[النازعات:30].

كما نلاحظ في هذه الجملة الفريدة أنها تحولت من الجملة الاسمية ﴿وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا ﴾ إلى الجملة الفعلية: ﴿ وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ ﴾، والجملة الفعلية: ﴿ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾، وهذه الآية مثالٌ جميلٌ على التعانق بين الجمل الاسمية والفعلية في القرآن الكريم وفي التمازج العلائقي بين الكلمات التي دخلت في [المساواة] فلا هي إلى الإيجاز ولا هي إلى الإطناب، ويبدو ذلك في وصف الأرض بالمد أو الدحو ووصف الجبال الرواسي بالإلقاء، ثم ظاهرة الإنبات التي تحول اليابس إلى خضار، ويبدو ذلك التحول في حركة [الإقلاب]، و﴿ وَأَنبَتْنَا ﴾ فأفادت حركة الإقلاب، والتحول في طبيعة الأشياء، وفي طبيعة الأرض التي كانت سوداء قاحلة.

تصفح أيضا

العدل

العدل

أخبار الطقس

SAUDI ARABIA WEATHER

مواقيت الصلاة

جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد عبده عوض