صلة بن أشيم العدوي

صلة بن أشيم العدوي

بسم الله الرحمن الرحيم
 الحمد لله رب العالمين، لا عز لا في طاعتك، ولا نعيم إلا في رضاك، ولا سعادة إلا في التذلل لعظمتك {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]. اللهم زدنا علما وحلما{وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84]. والصلاة والسلام على خير من ذكر  وعبد وأناب وتاب، وعلى آله وأصحابه الكرام.
سنتكلم عن واحد من الطبقة الأولى من علماء وتابعي البصرة، قلنا إن كل بلد فيها جامعة البصرة الكوفة مكة فيها طبقات، ومن الطبقة الأولى يعني أدرك الصحابة، الطبقة الثانية من التابعين أدركوا من أدركوا الصحابة، الطبقة الثالثة من التابعين أدركوا  من أدركوا أدركوا الصحابة. صليت على خير الكل؟
نحن أمام شخصية فذة صحيح كونه كان مجاب الدعاء فحدّث ولا حرج،  والمواقف كثيرة، وكان ممن قال فيهم صلى الله عليه وسلم: "رُبَّ أَشعَثَ أَغْبرَ مَدفُوعٍ بالأبوابِ لَو أَقسَمَ على اللهِ لأَبَرَّهُ"([1])
أدرك صَلة بن أَشَيْم العدوي البصري رضي الله عنه جملة من الصحابة رضي الله عنهم. فكان قريب عهد بعهد بالنبوة. وهؤلاء الناس رقت قلوبهم؛ لكثرة عبادتهم لله تعالى، العبادة عند هؤلاء حب، والعبادة عندنا كره. العبادة عند هؤلاء حالة من الانسجام والراحة، والفضفضة مع الله تعالى. ألم أقل لك: {كانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} [الذاريات].
فكان صلة بن أشيم العدوي البصري رضي الله عنه يقيم الليل حتى يزحف إلى فراشه الأرضي. لا يقدر المشي يزحف ذكره ابن الجوزي في كتابه (صفة الصفوة) ([2])، كان صلة بن أشيم العدوي البصري رضي الله عنه يصلي في اليوم والليلة أربعمائة ركعة، ولا يشبع من العبادة حتى يجلس، ويمدد قدميه ويراهما منتفختين، كالذي عنده قدم سكري، فيطبطب عليها ويقول لها: ترقبي هناءة في الجنة.
 ربما زوجته معاذة ابنة عمه تفوقت عليه في العبادة، فكانت تقيم الليل وتقول لنفسها: يا معاذة هذه آخر ليلة لك في الحياة، الليلة تُطوى صحيفتك فانظري كيف تقابلين ربك؟ فحدث ولا حرج.
يضاف إليه كان صلة بن أشيم العدوي البصري رضي الله عنه ممن يقال عليه: رهبان بالليل فرسان بالنهار، العهد الذي كان فيه عهد الفتوحات الإسلامية، وكانت عندهم حرب في أفغانستان، فنزلوا ليلا في معسكر عند كابل لمواجهة العدو، فكان أحد المتطلعين اسمه: حماد بن زيد أراد أن يتعرف على حال الصالحين،  يقول: فظللت أتابعه فنام مع الناس، ثم تأكد أن كل الناس قد نامت، ثم ذهب إلى ضيعة حديقة واسعة، وتوضأ وأخذ في الصلاة، وظللت أتابعه، وهذه المنطقة كانت مسبعة يعني مليئة بالسباع، فأقبل أسد، وله زئير يهزّ الجبل، وصلة بن أشيم يصلي ولا يبالي.
يقول الراوي: أنا لم أتحمّل الأسد فقفزت أعلى الشجرة، وتمسكت بها مخافة أن ينظر إليّ الأسد، وأطال في القيام، فلما سجد أتى الأسد يشمّ فيه حتى انتهى من صلاته، والأسد جالس في منتهى الاحترام، فقال له: اذهب، وابحث عن رزق في مكان آخر، فخرج الأسد ومشى، وله زئير يهزّ الجبال.
طبعا أمثال هذه الروايات لا تكون إلا مع أناس في مرتبة الصحابة رضي الله عنهم. كما حدثتك عن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تفتقت بهم ألواح السفينة، ولجأ إلى جزيرة مسبعة، وجاء إليه أسد فقال له: أنا مولى رسول الله وتكفّل الأسد بتوصيله لمكان آمن. {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ (62)} [النمل].
 ألم تسمعوا أن هناك علم المعية {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)} [التوبة].
كما قال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]
 اعلم اعلم اعلم... كان هؤلاء في معية ربانية خاصة بحيث لا يمكن لك أن ترى حالهم إلا مع الله تعالى. فتغلبت العبادة عليه على الرواية، وكان جلّ حياته أن يكون عابدا.
فبينما يستعدون للقاء العدو، قال الأمير: لا يتحرّك أحد من مكانه، وفي هذه الحالة حالة حرب، وكله انتباه يا فندم، ففقدت بغلته رضي الله عنه، وعليها متاعه، فقال: أقسم بك عليك ثلاثا أن تردها إليّ الآن، فإذا هي واقفة أمامه، كما قلت: "لَو أَقسَمَ على اللهِ لأَبَرَّهُ" الله أكبر، فتقدم هو وأحد التابعين أيضا اسمه: هشام بن عامر، رحمهما الله تعالى، كانا في مقدمة الجيش، ولا تحسب أن العباد ناس هطل! لا فالعبادة جزء من ورعهم، وزهدهم وحدة بصيرتهم، وتعطيهم قوة، فلقيا القوم فأوجعوهم ضربا شديدا، وقالوا: إذا كان اثنان من العرب يفعلون بنا ذلك، فكيف بباقي الجند؟ ففروا أمامهم، واستسلموا لأمر الله تعالى.  وكان عنوان حالهم: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ (17)} [الأنفال].
وكان ذات مرة رضي الله عنه في مكان ليس فيه طعام ولا شراب، فقال: أقسمت بك عليك أن تغيثني الآن، فسمع صوتًا خلفه من السماء، وقع منها، فالتفت فإذا هو منديل فيه رطب كأنه قُطف الآن، فأخذ المنديل، وظلّ المنديل مع زوجته معاذة، وكلما أتى إليهم أحد تقول: هذا منديل من الجنة.
 هؤلاء لهم أحوال خاصّة مع الله تعالى؛ لأن الله تعالى هذّب قلوبهم وأرواحهم، وجعل أُنسهم بالله تعالى. وكان عنوان حياتهم: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84]. كلماتهم قليلة، لكنها مؤثرة. أتى إليه أحد الناس فقال: ادع الله لي يا إمام. فقال له: رغبك الله فيما بقي من عمرك، وأذهب عنك كل ما يفنى. يعني ربنا يحبب إليك الأعمال الصالحة، ويزهدك في المعاصي، ويحول بينك وبين المعاصي، وقد أخذها من قوله تعالى: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} [غافر: 9] ومن قول حضرة النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارحمنى بترك المعاصى أبدا ما أبقيتنى) أخرجه الترمذى وقال: حسن غريب.
وكان صلة بن أشيم العدوي البصري إذا دعا لنفسه أعطاه الله، وإذا طلب منه أحد أن يدعو له فدعا له أعطاه الله، وإذا دعا لجيش نصره الله، وتمنى الشهادة، وكانوا يخوضون حربا ضروسا في بلاد ما وراء النهر أي: أوزباكستان وباكستان وأفغانستان بلاد صعبة، فالتقى المسلمون بالكفار ودارت رحى الحرب واشتد وطيسها، ولم تضع الحرب أوزارها، وكان بجواره ابنه الصالح، وكان صالحا مثل أبيه فقال له: يا ولدي تقدم فقاتل، فإني أحتسبك شهيدا عند الله، فتقدم وظلّ يقاتل حتى سقط شهيدا، فتاقت نفسه إلى الجنة، هو نفسه، كما فعل الصحابة يوم بدر.
كان أحدهم يأكل تمرة فشاهد كأن الجنة تساق إليه الآن، ألا هبي يا رائحة الجنة ورمى التمر، وظلّ يقاتل حتى استشهد. الله أكبر ولله الحمد. فتقدّم صلة يقتل حتى مات شهيدا كما تمنّى {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)} [الشورى]. 
ومما تميّز به هذا الرجل الصالح أنه كان إماما في الزهد، وإماما في العلم، وإماما في الورع، وكانت البصرة آنذاك تضم جهابذ الأمة، كالإمام الحسن البصري في البصرة، محمد بن واسع الأسدي البصري، ثابت البناني البصري يعني أعلام الأمة الذين لا زالت تسري أنوارهم إلى يومنا هذا كانوا في البصرة، وتعلّموا من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت حالة إيمانية جميلة أنك لا ترى في البصرة إلا الصالحين آنذاك الذين هدى الله تعالى قلوبهم، فلماذا كانوا مجابي الدعاء؟
هذا السؤال يطرحه ابن الجوزي الإمام الحافظ، والإمام الذهبي في (سير أعلام النبلاء): هل هم ولدوا مجابو الدعاء، أم لحالة إيمانية وصلوا لها، فقال الله تعالى لملائكته: هذا العبد فلان ابن فلان لا تردّ له دعوة؟.         
والإجابة تتضح منها السؤال أنهم كانوا في حالة إيمانية، وترقية إيمانية منذ شبابهم فلم يشموا رائحة المعاصي (شاب نشأ في طاعة الله، رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه) ([3]) فحالتهم (هم طاروقو الأبواب) ومدمن القرع للأبواب قد يلجا.
يعني الناس صلت العشا، وطارت عقولها نحو أحذيتها، وقليل منهم ختموا الصلاة أما هذا فصلى العشاء، ثم التهجد والناس نامت،  واستيقظت وكذا، وهو يظل يدعو، ويستغفر حتى يأتي الفجر، وهو يزحف على يديه.
هل ترى أن صوته لا يزلزل الملأ الأعلى؟ ما معنى يزلزل؟ يعني إذا دعا لك أو دعا لي مليارات الملائكة تقول: آمين. السماء كلها تتفاعل معه؛ لذا لما فقد بغلته والمنطقة صحراوية، ومن الصعب أن ترجع الأشياء المفقودة تهيم على وجهها، فقال: كأنهم أنبياء أقسمت عليك أقسمت عليك أن ترد علي دابتي الآن، فإذا هي قائمة على أصولها، يعني واقفة أمامه لماذا؟ لأنه إذا قال: أقسمت عليك، فالملائكة كلها تؤمّن، وهذه واحدة من أن مجابي الدعوة كانت لهم حالة إيمانية خاصة مع الله لا يتحملها كثير من الناس.
وكان في حصيلة عمره مع أنه فارس له رغيفان رغيف يفطر به ورغيف يتسحر به.
ماذا فهمنا من هذه الرواية التي أوردها ابن الجوزي؟ فهمنا منها أنه كان صائما العمر كله على رغيفين، فأيكم يقدر على هذا؟ وأي ملايين البشر يقدر على هذا ولذا فإن الله تعالى اصطفاهم كي يزلزل الملأ الأعلى قبل أن يزلزل الملأ الأدنى حتى تغار الملائكة من أفعالهم.
اللهم خذ بأيدينا إليك أخذ الكرام عليك، نوّر قلوبنا بحبهم، وأسعد أيامنا بقربهم وآنسنا بذكر مناقبهم، فإن ذكر مناقبهم نور، وشرح للصدور، فهم لم يعرفوا المعصية ولم يشموا رائحتها، اللهم كما هديتهم فاهدنا، اللهم كما علّمتهم فعلمنا، وكما رقيتهم فرقنا، وكما نورتهم فنورنا، وكما أسعدتهم فأسعدنا، وكما أخذت بأيديهم فخذ بأيدينا إليك.
أقسم بك عليك يا الله، كما جعلت دعاءهم مستجابا، ونورهم ساطعا، وسرهم قويا فاجعل لنا نصيبا مما أعطيت لهم، اللهم ما قسمت في هذه الليلة على أمة الإسلام من خيرات رمضان، فاجعل لنا من هذه الخيرات أوفر الحظّ والنصيب في أيام العشر الأواخر أدم علينا كرمك العميم، واجعلنا معهم، نسألك حبك وحب من يحبك وكل عمل يقربنا إلى حبك.
{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } [إبراهيم: 40، 41] {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 
 


تصفح أيضا

القوي

القوي

أخبار الطقس

SAUDI ARABIA WEATHER

مواقيت الصلاة

جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد عبده عوض